فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقوله تعالى: {الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ} شروعٌ في بيانِ شأنِ الظهارِ في نفسِهِ وحكمِه المترتبُ عليه شَرْعًا بطريقِ الاستئنافِ والظهارُ أنْ يقول الرجلُ لامرأتِهِ أنتِ عليَّ كظهرِ أُمِّي مشتقٌ منَ الظهرِ وَقدْ مرَّ تفصيلُهُ في الأحزابِ وألحقَ بهِ الفقهاءُ تشبيهَهَا بجزءٍ مُحرمٍ. وَفي منكُمْ مزيدُ توبيخٍ للعربِ وتهجينٌ لعادتهمْ فيه فإنَّهُ كانَ منْ أيمانِ أهلِ جاهليتهِمْ خَاصَّة دونَ سائرِ الأممِ وقرئ {يُظّاهرونَ} منْ اظّاهرَ و{يظَاهرونَ} و{يظْهرونَ} وقوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} خبرٌ للموصولِ أَيْ ما نساؤُهُم أمهاتُهُم عَلَى الحقيقةِ فهُوَ كذبٌ بحتٌ وقرئ {أمهاتُهم} بالرفعِ عَلى لُغةِ تميمٍ وبأمهاتِهم {إِنْ أمهاتهم} أيْ مَا هُنَّ {إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} فَلاَ تشبَّهُ بهنَّ فِي الحُرمةِ إِلا منْ ألحقَهَا الشرعُ بهنَّ منَ المرضعاتِ وأزواجِ النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فدخلنَ بذلكَ في حُكمِ الأمهاتِ وَأمَّا الزوجاتُ فأبعدُ شيءٍ منَ الأُمومةِ {وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ} بقولهم ذلكَ {مُنكَرًا مّنَ القول} عَلى أنَّ مناطَ التأكيدِ ليسَ صدورَ القول عنْهمْ فإنَّه أمرٌ محققٌ بلْ كونَهُ منكرًا أيْ عندَ الشرعِ وعند العقلِ والطبعِ أيضًا كما يشعرُ بهِ تنكيره ونظيرُهِ قولهُ تعالى: {إنكُمْ لتقولونَ قولا عظيمًا}، {وَزُورًا} أيْ محرفًا عنِ الحَقِّ {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أيْ مبالغٌ في العفو والمغفرةِ فيغفرُ لمَا سلفَ منْهُ عَلَى الإطلاقِ أَوْ بالمتابِ عنْهُ وقوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالواْ} تفصيلٌ لحكمِ الظهارِ بعدَ بيانِ كونِهِ أمرًا منكرًا بطريقِ التشريعِ الكليِّ المنتظمِ لحكمِ الحادثةِ انتظامًا أوليًا أيْ والذينَ يقولونَ ذلكَ القول المنكرَ ثمَّ يعودونَ لما قالوا أَيْ إِلى مَا قالوا بالتداركِ والتلافِي لاَ بالتقريرِ والتكريرِ كَما في قوله تعالى: {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا} فإِنَّ اللامَ وإِلى تتعاقبان كَثيرًا كَما في قولهِ تعالى: {هَدَانَا لهذا} وقولهِ تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} وقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} وقوله تعالى: {وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ} {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فتداركُهُ أو فعليهِ أوْ فالواجبُ إعتاقُ رقبةٍ أيَّ رقبةٍ كانتْ وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله تعالى يشترطُ الإيمانُ، والفاءُ للسببيةِ ومن فوائدِها الدلالةُ على تكررِ وجوبِ التحريرِ بتكررِ الظهارِ وَقيلَ: (ما قالوا) عبارةٌ عَمَّا حرَّمُوهُ عَلى أنفسِهمْ بلفظِ الظهارِ تنزيلًا للقول منزلةَ المقول فيهِ كَما ذُكرَ في قولهِ تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقول} أَي المقول فيهِ منَ المالِ والولدِ فالمَعْنَى ثُمَّ يريدونَ العودَ للاستمتاعِ فتحريرُ رقبةٍ {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أيْ مِنْ قبلِ أنْ يستمتعَ كلٌ منَ المُظاهِرِ وَالمُظاهَرِ منْهَا بالآخرِ جماعًا وَلَمسًا ونظرًا إلى الفرجِ بشهوةٍ وإنْ وقعَ شيءٌ من ذلكَ قبلَ التكفيرِ يجبُ عليهِ أنْ يستغفرَ ولا يعودَ حتَّى يكفرَ وإنْ أعتقَ بعضَ الرقبةِ ثمَّ مسَّ عليهِ أنْ يستأنفَ عندَ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى: {ذلكم} إشارةٌ إِلى الحكمِ المذكورِ وَهُوَ مبتدأٌ خبرُهُ {تُوعَظُونَ بِهِ} أيْ تزجرونَ بهِ عنِ ارتكابِ المنكرِ المذكورِ فإنَّ الغراماتِ مزاجرٌ عنْ تعاطِي الجناياتِ والمرادُ بذكرِهِ بيانُ أنَّ المقصودَ منْ شرعِ هَذَا الحكمِ ليسَ تعريضكُمْ للثوابِ بمباشرتكُمْ لتحريرِ الرقبةِ الذِي هُوَ علمٌ في استتباعِ الثوابِ العظيمِ بلْ هُوَ ردعُكم وزجرُكم عنَ مباشرةِ ما يوجبُهُ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} منَ الأعمالِ التي منْ جُملتِها التكفيرُ ومَا يوجبُهُ من جنايةِ الظهارُ {خَبِيرٌ} أَيْ عالمٌ بظواهِرِهَا وبواطِنَها ومجازيكُم بهَا فحافظُوا على حدود ما شرعَ لكُمْ وَلاَ تُخلُّوا بشيءٍ منْهَا.
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أيْ الرقبةَ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} أيْ فعليهِ صيامُ شهرينِ {مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} ليلًا أوْ نهارًا عمدًا أَوْ خطًا {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} أيْ الصيامَ لسببٍ منَ الأسبابِ {فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا} لكُلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ منْ بُرَ أَوْ صاعٌ منْ غيرِهِ ويجبُ تقديمُهُ عَلَى المسيسِ لكن لا يستأنفُ إنْ مسَّ في خلالِ الإطعامِ {ذلك} إِشارةٌ إِلى مَامرَّ من الباينِ والتعليمِ للأحكامِ والتنبيُهُ عليهَا وَمَا فيهِ منْ معنى البُعدِ قَد مَرَّ سرُّهُ مِرارًا ومحلُّه إمَّا الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو النصبُ بمضمرٍ معللٌ بَما بعدَهُ أيْ ذلكَ واقعٌ أو فعلُنَا ذلكَ {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} وتعملُوا بشرائعِهِ التي شرعَهَا لكُم وترفضُوا ما كنتُم عليه في جاهليتِكُم {وَتِلْكَ} إشارةٌ إِلى الأحكامُ المذكورةِ وما فيه من مَعْنى البُعدِ لتعظيمِها كما مَرَّ غيرَ مرةٍ {حُدُودَ الله} التِي لا يجوزُ تعدِّيهَا {وللكافرين} أي الذينَ لا يعملونَ بَها {عَذَابٌ أَلِيمٌ} عبرَ عنْهُ بذلكَ للتغليظِ عَلَى طريقةِ قولهِ تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} {إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أيْ يعادونَهُمَا ويشاقونهُمَا فإنَّ كلًا منَ المتعاديينِ كَما أنَّه يكونُ في عُدوةٍ وشقٍ غيرِ عُدوةِ الآخرِ وشقِّهِ كذلكَ يكونُ في حدَ غيرِ حَدِّ الآخرِ غيرَ أنَّ لورودِ المحادّةِ في أثناءِ ذكرِ حدودِ الله دونَ المعاداةِ والمشاقةِ من حسنِ الموقعِ ما لا غايةَ وراءَهُ {كُبِتُواْ} أيْ أخزُوا وَقيلَ خُذِلُوا وقيلَ أذلُّوا وقيل أهلكُوا وقيلَ لُعنُوا وقيلَ غِيظُوا وهُوَ ما وقعَ يومَ الخندقِ قالوا معَنْى كُبتوا سيكبتونَ عَلَى طريقةِ قوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} وقيلَ: أصلُ الكبتِ الكبُّ {كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} منْ كُفَّارِ الأممِ الماضيةِ المعادينَ للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ {وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات} حالٌ منْ واوِ كُبتوا أيْ كُبتوا لمحادّتِهم والحالُ أنا قدْ أنزلنا آياتٍ واضحاتٍ فيمنَ حادَّ الله ورسولَهُ ممنْ قبلَهُم من الأَممِ وفيمَا فعلْنَا بهمْ وقيلَ: آياتٌ تدلُّ عَلى صدقِ الرسولِ وصحةِ ما جَاء بهِ {وللكافرين} أيْ بتلكَ الآياتِ أو بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ بهِ فيدخلُ فيهِ تلكَ الآياتُ دُخولًا أوليًا {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهبُ بعزِّهم وَكِبْرِهم.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله} منصوبٌ بمَا تعلقَ بهِ اللامُ منَ الاستقرار أوْ بمهينٍ أو بإضمارِ أذكُرْ تعظيمًا لليومِ وتهويلًا لَهُ {جَمِيعًا} أيْ كُلُّهم بحيثُ لاَ يَبْقَى منهُمْ أحدٌ غيرُ مبعوثٍ أوْ مجتمعينَ في حالةٍ واحدةٍ {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} منَ القبائحِ ببيانِ صُدورِها عنهُمْ أوْ بتصويرِهَا في تلكَ النشأةِ بما يليقُ بَها منَ الصورِ الهائلةِ عَلى رؤوسِ الإشهادِ تخجيلًا لهُم وتشهيرًا بحالِهم وتشديدًا لعذابهم وَقوله تعالى: {أحصاه الله} استئنافٌ وقعَ جَوابًا عمَّا نشأَ ممَّا قبلَهُ منَ السؤالِ إمَّا عنْ كيفيةِ التنبئةِ أو عنْ سببِهَا كأنَّه قيلَ كيفَ ينبئُهمْ بأعمالِهم وهيَ أعراضٌ متقضيةٌ متلاشيةٌ فقيلَ أحصاهُ الله عددًا لمْ يفُتْهُ منْهُ شيءٌ فقوله تعالى: {وَنَسُوهُ} حينئذٍ حالٌ من مفعولِ أَحْصَى بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أو قيل لم ينبئهم بذلك فقيل أحصاه الله ونسوهُ فينبئهمْ بهِ ليعرفُوا أنَّ مَا عاينُوه من العذابِ إنما حاقَ بهمْ لأجلِهِ فيهِ مزيدُ توبيخٍ وتنديمٍ لهُم غيرِ التخجيلِ والتشهير {والله على كُلّ شيء شَهِيدٌ} لا يغيبُ عنهُ أمرٌ منِ الأمورِ قطُّ والجملةُ اعتراضُ تذييليُّ مقررٌ لإحصائِهِ تعالى. اهـ.

.تفسير الآية رقم (7):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا الإخبار عن إحاطة علمه وشمول قدرته مع أنه بديهي التصور- يحتاج عند من جره الهوى إلى الشرك المقتضي للنقص إلى دليل معه فقد كان العرب ينكرون أن يسع الناس كلهم إله واحد، قال تعالى دالًا على ذلك بدليل شهودي ليفيد الإنسان بما يراه من المحسوسات، قاصرًا الخطاب على أعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره: {ألم تر} أي تعلم علمًا هو في وضوحه كالرؤية بالعين {أن الله} أي الذي له صفات الكمال كلها {يعلم ما في السماوات} كلها.
ولما كان الخطاب لأعلى الخلق، وكان المقام لإحاطة العلم، وكان خطابه صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة للسامعين إلى وعورة هذا المقام وأنه بحيث لا يكاد يتصوره ولا يفهمه حق فهمه إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن ألحق به ممن صفا فهمه وسوى ذهنه وانخلع من الهوى والعوائق، جمع وأكد بإعادة الموصول، فإفراده صلى الله عليه وسلم بالخطاب بعد أن كان مع المظاهرين ثم المحادين إشارة إلى التعظيم وتأكيده تنبيه على صعوبة المقام بالتعميم ليرعى حق الرعي توفية بحق التعليم كما رعته الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قولها (سبحان من وسع سمعه الأصوات) يعني في سماعه مجادلة المرأة وهو في غاية الخفاء فقال تعالى: {وما في الأرض} أي كليات ذلك وجزئياته، لا يغيب عنه شيء منه، بدليل أن تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من يشاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك، القاصية والدانية، الحاضرة والغائبة، الماضية والآتية، فيكون كما أخبر.
ولما كان ذلك وإن كان معلومًا يتعذر إحاطة الإنسان بكل جزئي منه، دل عليه بما هو أقرب منه فقال: {ما تكون} بالفوقانية في قراءة أبي جعفر لتأنيث {النجوى} إشارة إلى العلم بها ولو ضعفت إلى أعظم حد، وقرأ الباقون بالتحتانية للحائل، ولأن التأنيث غير حقيقي، وهي على كل حال من (كان) التامة، وعمم النفي بقوله: {من نجوى} أي تناجي متناجين، جعلوا نجوى مبالغة، والنجوى: السر والمسارون، اسم ومصدر- قاله في القاموس، وقال عبد الحق في الواعي: النجوى الكلام بين الاثنين كالسر والتشاور- انتهى.
وأصله من النجوى- للمرتفع من الأرض، والنجو: الخلوص والقطع وكشط الجلد والحدث والكشف، لأن المسارر يرفع ما كان في ضميره إلى صاحبه ويخلصه بمساررته له ويقطعه من ضميره ويكشطه منه ويحدثه ويكشفه.
ولما كانت النجوى لا تكمل إلا بثالث يحفظ الأنس بإدامة الاجتماع لأن الاثنين ينفردان عند عروض حاجة لأحجهما ويكونان في التناجي والتشاور كالمتنازعين، والثالث وسط بينهما مع أنه سبحانه وتر يحب الوتر، والثلاثة أول أوتار العدد، كما كان حافظًا لها في أزل الأزل قال: {ثلاثة} أي في حال من الأحوال {إلا هو رابعهم} أي مصيرهم أربعة، فهو اسم فاعل والمعنى بعلمه وقدرته كما يكون كل من المتناجين عالمًا بنجوى البعض، فروح النجوى العلم بالسر.
ولما كان الثلاثة قد يريد أحدهم أن ينفرد بآخر منهم، فيصير الثالث وحده، فإذا كانوا أربعة دام الأنس بينهم ثم لا يكمل إلا بخامس يحفظ الاجتماع إذا عرضت لأحد الاثنين حاجة قال: {ولا خمسة} أي من نجواهم {إلا هو سادسهم} كذلك، فالحاصل أنه ما يكون من وتر إلا كان هو سبحانه شافع وتريته، وأما وتريته هو سبحانه فقد كانت ولا شيء معها أصلًا، وستكون ولا حي معها، فلا وتر في الوجود على الحقيقة غيره.
ولما علم بالتكرير أن ما ذكر على سبيل المثال لا لمعنى يخصه من جهة بالعلم، عم بقوله: {ولا أدنى} فبدأ بالقليل لأنه قبل الكثير وهو أخ في منه {من ذلك} أي الذي ذكر وهو الواحد والاثنان والأربعة الذي بعيد عن رتبته وإن كان قد شرفه سبحانه بإطلاق معيته بعد أن لا نسبة له منها.
ولما كان العلم بالكثير أعسر من أجل انتشاره قال: {ولا} أي يكون من نجوى {أكثر} أي من ذلك كالستة فما فوقها لا إلى نهاية- هذا التقدير على قراءة الجماعة بالجر بفتحة الراء ورفع يعقوب على محل من {نجوى} {إلا هو معهم} أي يعلم ما يجري منهم وبينهم، ويلزم من إحاطة علمه إحاطة قدرته كما تقدم في طه لتكمل شهادته.
ولما كان العموم في المكان يستلزم العموم في الزمان، وكان المكان أظهر في الحس قال: {أين ما} أي في أيّ مكان {كانوا} فإنه لا مسافة بينه وبين شيء من الأشياء لأنه الذي خلق المسافة، وعلمه بالأشياء ليس لقرب مكان حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة ولا بسبب من الأسباب غير وجوده على ما هو عليه من صفات الكمال، قال الرازي: ما فارق الأكوان الحق ولا قارنها، كيف يفارقها وهو موجدها وحافظها ومظهرها، وكيف يقارن الحدث القدم وهو به قوام الكل، وهو القيوم على الكل- انتهى.
والحاصل أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء من العالم وإن بلغ في دقته إلى ما لا ينقسم، وهو شاهد لذلك كله حفظًا وعلمًا وإحاطة وحضورًا، وآية ذلك في خلقه أن جملة الجسم يحيا بالروح، فلا يبقى جزء منه إلا وهو محفوظ بالروح يحس بسببها وهو سبحانه لا يحجب علمه ولا شيئًا من صفاته حجاب، فقد صحت المعية وهو بحيث لا يحويه المكان ولا يحصره العد، يقبض المخلوق ويبسطه، لا يصعد المخلوق ولا صفته ولا فعله ولا معنى من معانيه إلى صفة من صفاته، إنما له من المكان المكانة، ومن العلم العلا، ومن الأسماء والصفات مقتضاها- أشار إلى لك ابن برجان وقال: ومن تدبر ما قرأه وتفهم ما تعلمه أدرك من التحقيق ما نحن بسبيل تبيانه ما قدر له، ألا ترى إلى الجن أين مكانهم وإن كانوا موصوفين به ثم الملائكة أرفع قدرًا ومكانة، بل إن الروح من جميع الجملة التي تحمله، به حييت وبه تدبيرها وبه قيامها بإن الله خالقه،